[b]
الشجاعة - روائع أخلاق الرسول
1- لم تراعوا لم تراعوا:
عن أنس t قال: كان النبيأحسن الناس، وأشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ليلةً فخرجوا نحو الصوت فاستقبلهم النبيوقد استبرأ الخبر، وهو على فرس لأبي طلحة عُرْيٍ، وفي عنقه السيف وهو يقول: "لَمْ تُرَاعُوا لَمْ تُرَاعُوا"، ثم قال: "وَجَدْنَاهُ بَحْرًا[1]" أو قال: "إِنَّهُ لَبَحْرٌ"[2].
2- الأقرب إلى العدو عند الحرب:
عن علي t قال: "لقد رأيتنا يوم بدر ونحن نلوذ برسول اللهوهو أقربنا إلى العدو، وكان من أشد الناس يومئذ بأسًا"[3].
3- تسترضيه قريش خوفا منه:
عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قلت له: ما أكثر ما رأيت قريشًا أصابت من رسول اللهفيما كانت تُظهِر من عداوته! قال: حضرتهم وقد اجتمع أشرافهم يومًا في الحجر فذكروا رسول الله، فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من هذا الرجل قط، سفَّه أحلامنا، وشتم آباءنا، وعاب ديننا، وفرَّق جماعتنا، وسبّ آلهتنا، لقد صبرنا منه على أمر عظيم، أو كما قالوا.
قال: فبينما هم كذلك إذ طلع عليهم رسول الله، فأقبل يمشي حتى استلم الركن ثم مر بهم طائفًا بالبيت، فلما أن مر بهم غمزوه ببعض ما يقول. قال: فعرفت ذلك في وجهه ثم مضى، فلما مر بهم الثانية غمزوه بمثلها، فعرفت ذلك في وجهه ثم مضى، ثم مر بهم الثالثة فغمزوه بمثلها فقال: "تَسْمَعُونَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، أَمَا وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِالذَّبْحِ".
فأخذت القوم كلمته حتى ما منهم رجل إلا كأنما على رأسه طائر واقع حتى إنَّ أشدهم فيه وصاةً قَبْل ذلك لَيَرْفَئُوه بأحسن ما يجد من القول، حتى إنه ليقول: انصرفْ يا أبا القاسم، انصرف راشدًا، فوالله ما كنت جهولاً. قال: فانصرف رسول الله...[4].
4- لم يفريوم حنين:
عن أبي إسحاق: قال رجل للبراء بن عازب رضي الله عنهما: أفررتم عن رسول اللهيوم حنين؟ قال: لكن رسول الله لم يفر، إن هوازن كانوا قومًا رماة، وإنا لما لقيناهم حملنا عليهم فانهزموا، فأقبل المسلمون على الغنائم، واستقبلونا بالسهام، فأما رسول اللهفلم يفرَّ، فلقد رأيته وإنه لعلى بغلته البيضاء، وإن أبا سفيان آخذٌ بلجامها، والنبييقول: "أَنَا النَّبِيُّ لاَ كَذِبْ، أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ"[5].
1- لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها:
عن عائشة -رضي الله عنها- أن قريشًا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا: ومن يكلم فيها رسول الله؟! قالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حِبّ رسول الله. فكلمه أسامة، فقال رسول الله: "أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ". ثم قام فاختطب، ثم قال: "إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا"[1].
2- ويأمر بالعدل بين الأولاد:
عن عامر قال: سمعت النعمان بن بشير -رضي الله عنهما- وهو على المنبر يقول: أعطاني أبي عطية، فقالت عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تُشهِد رسول الله. فأتى رسول اللهفقال: إني أعطيت ابني من عمرة بنت رواحة عطية، فأمرتني أن أشهدك يا رسول الله. قال: "أَعْطَيْتَ سَائِرَ وَلَدِكَ مِثْلَ هَذَا". قال: لا. قال: "فَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلاَدِكُمْ". قال: فرجع فردَّ عطيته[2].
3- ويعدل بين أزواجه:
عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: قالت عائشة: يابن أختي، كان رسول اللهلا يفضل بعضنا على بعض في القسم من مكثه عندنا، وكان قَلَّ يومٌ إلا وهو يطوف علينا جميعًا، فيدنو من كل امرأة من غير مسيس، حتى يبلغ إلى التي هو يومها فيبيت عندها، ولقد قالت سودة بنت زمعة حين أسنَّتْ[3] وفَرِقَتْ[4] أن يُفارِقها رسول الله : يا رسول الله، يومي لعائشة. فقبل ذلك رسول اللهمنها. قالت: نقول في ذلك أنزل الله تعالى وفي أشباهها أُراه قال: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا}
لم يكن الرسوليقتصر على التودد والملاطفة والرقة في الخطاب، بل كان يتجاوز ذلك إلى ثناءٍ ومدحٍ للمخالفين له، بل والمحاربين له!!
الرسول يمدح سهيل بن عمرو
فها هويمدح سهيل بن عمرو[1] وهو حينذاك من قادة المشركين حين جاءه يفاوضه في صلح الحديبية، ويقول للمسلمين: «لَقَدْ سَهُلَ أَمْرُكُمْ»[2]؛ لما يعلمه من سهولة أمر سهيل بن عمرو وحسن طباعه.
الرسول يمدح خالد بن الوليد
واستمع إلى الرسولوهو يتكلم عن خالد بن الوليد قبل إسلامه، وكان ذلك في العام السابع من الهجرة، أي بعد عدة مواقع حربية كان خالد بن الوليد فيها على رأس الجيوش المشركة، ومن أهمها غزوة أحد، وغزوة الأحزاب، ووقعة الحديبية..
يقول رسول اللهللوليد بن الوليد أخي خالد بن الوليد -وكان الوليد مسلمًا حينذاك-: «أَينَ خَالِدٌ؟» (يعني لماذا لم يُسلِمْ خالد؟) فقال الوليد: يأتي به الله. فقال: «مَا مِثْلُهُ جَهِلَ الإِسْلامَ، ولَو كَانَ جَعَلَ نَكَايَتَهُ وجِدَّه مَعَ المسْلِمِين عَلَى المشْرِكِينَ كَانَ خَيْرًا لَهُ، وَلَقَدَّمْنَاهُ عَلَى غَيْرِهِ»[3].
فمع الذكريات الأليمة المرتبطة بخالد بن الوليد -وبخاصة مصيبة أُحد- إلا أن الرسوللا يمتنع من الثناء على عقله، ويتعجب من كَوْنِه لم يدرك قيمة الإسلام مع شدة ذكائه وحكمته، ثم إنه يُثني على خبرته العسكرية وإمكانياته القتالية الفَذَّة، فيعلن أنه لو انضم للمسلمين فسوف يُقَدِّمُهُ على غيره من السابقين إلى الإسلام؛ وذلك لقناعة الرسولبمواهبه المتميزة في الحروب والمعارك.
وليس سهلاً مطلقًا على قائدٍ أن يَمْدَح معاديًا له إلا إذا كان على درجة كبيرة من الأخلاق والحكمة والنزاهة.
الرسول يمدح لبيد بن ربيعة
وكذلك رأينا رسول اللهيمدح شعر لبيد بن ربيعة[4] وكان آنذاك مشركًا، فقال رسول اللهذ: «أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا الشَّاعِرُ كَلِمَةُ لَبِيدٍ أَلاَ كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلاَ اللهَ بَاطِلُ»[5].
فالرسول-وإن كان لا يقول الشعر ولا يُكثِرُ من سماعه- ما تَرَدَّدَ في مدح شاعرٍ مُشْرِكٍ عندما أجاد، هذا مع كثرة الشعراء المسلمين المجيدين أمثال حسان بن ثابت وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة وغيرهم ن أجمعين.
الرسول يمدح بني شيبان
ثم ها هويمدح أخلاق قومٍ مشركين رفضوا الدخول في دينه، ولم يقبلوا أن ينصروه!! لماذا؟! لأنه رأى بعينٍ حيادية أن لهم أخلاقًا عظيمة في بعض الجوانب فامتدحها، على الرغم من غياب الأخلاق الحسنة في جوانب أخرى.. إنهم بنو شيبان الذين يسكنون في شمال شرق الجزيرة العربية على أطراف العراق، ويتحالفون مع دولة فارس العظمى آنذاك.. لقد عرض عليهم رسول اللهالإسلام فاستحسنوا أمره جدًّا، وكانت ردودهم عليه في غاية الأدب، ولكنهم رفضوا صراحةً أن يدخلوا في الإسلام؛ خوفًا من كسرى فارس، ومع أن الأخلاق السلبية في الموقف كثيرة، ومن الممكن أن يُطعَن بها في شرف القوم، كغياب الحكمة وبُعْدِ النظر، وعدم القدرة على إدراك قيمة الدين الإسلامي، وكأخلاق الجُبْنِ والخوف من كسرى، وعدم نصرة المظلوم، والتردُّد وغياب الحسم والحزم... هذه كلها أخلاق سلبية كان من الممكن أن يُعَلِّقَ عليها الرسول، إلا أنه أغفل عمدًا الحديث عن كل هذه السلبيات، وانطلق يمدح أخلاقًا أخرى إيجابية رآها.
لقد قال: «مَا أَسَأْتُمْ فِي الرَّدِّ إذْ أَفْصَحْتُمْ بِالصِّدْقِ، وَإِنَّ دِينَ اللهِ لَنْ يَنْصُرَهُ إلاَّ مَنْ حَاطَهُ مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِهِ، أَرَأَيْتُمْ إنْ لَمْ تَلْبَثُوا إلاَّ قَلِيلاً حَتَّى يُورِثَكُمُ اللهُ أَرْضَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، وَيُفْرِشَكُمْ نِسَاءَهُمْ، أَتُسَبِّحُونَ اللهَ وَتُقَدّسُونَهُ»؟ فقال النعمان بن شريك: اللهم لك ذا. فتلا رسول الله: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب: 45، 46]، ثم نهض النبيفأخذ بيدي أبي بكر t، فقال: «يَا أَبَا بَكْرٍ، أَيَّةُ أَخْلاَقٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَا أَشْرَفَهَا؛ بِهَا يَدْفَعُ اللهُ بَأْسَ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ، وَبِهَا يَتَحَاجَزُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ»[6].
لقد ترك رسول اللهالتعليق على الأخلاق السلبية، ولم يقل لبني شيبان: أنتم فاقدون للمروءة والنجدة. إنما احترم أخلاقهم الإيجابية، وفي مقدمتها الصدق؛ إذ إنه من الخطر الشديد أن يقبل القوم الإسلام ثم يتركوه بعد ذلك، ومن ثَمَّ فحَسَنٌ جدًّا أن يُفْصِحُوا عن خوفهم وقلقهم من البداية.
ثم إنهم كانوا في غاية الأدب في التعبير عن رفضهم للدعوة، وقدَّر الرسوللهم ذلك، وفوق ذلك فهم متواضعون غيرُ متكبِّرين يُعْلِنُونَ أنهم سيتنازلون عن رأيهم، ويدخلون في دين الإسلام إنْ ظهر أمر هذا الدين على مُلْكِ فارس وغيرها.
إن هذا الموقف من رسول اللهليُعَتَبر من المواقف المحورية التي يجب أن يتمثَّلها المسلمون في حوارهم مع غير المسلمين.. إنهلا يمتنع عن ذِكْرِ محاسنهم وفضائلهم دون كذبٍ ولا رياء، إنما يذكر الحق الذي رآه، وفي هذا إحقاقٌ للحق، وفي الوقت نفسه ترقيق لقلوب المخالفين والمعارضين؛ مما يجعل خلافهم مع المسلمين أقلَّ حدة وأضعف شوكة.
مدح الرسول النجاشي
ومن الأمثلة العظيمة أيضًا التي تدل على احترام رسول اللهلغير المسلمين ما كان يقوله، ويحرص على تكراره من ثناء ومديح للنجاشي ملك الحبشة.. فإنَّه ما ترددأن يقول بصراحة: «إِنَّ بِهَا مَلِكًا لا يُظلَمُ عِنْدَهُ أَحَدٌ، وَهِيَ أَرْضُ صِدْقٍ[7].
إنه يمدح الملك النصراني بشيء هو فيه فعلاً، ولا بُدَّ لكل إنسان من شيء إيجابي فيه يستحق المدح، ولكن ليس كل الناس قادرين على إبراز الحُسْنِ عند غيرهم، بل يعتقد بعض قاصري الفهم من المسلمين أنه يجب ترك الثناء على غير المسلمين؛ خوفًا من أن يكون هذا نوعًا من الموالاة أو التودُّد المرفوض، وغالب الأمر أنهم يقيسون على ردود أفعال رسول اللهفي زمن الحرب والقتال ما ينبغي أن يكون من ردود أفعال في وقت السلم والتعاهد.
إن ما نذكره هنا هو جانب مهم وخطير من السيرة النبوية يحتاج المسلمون أن يعرفوه قبل غيرهم، إن هذا هو ديننا الذي ندين به ونفخر، وهذا هو رسولنا الذي نقتدي به ونعتز.
ولا شكَّ أن النصرانية التي كانت في الحبشة آنذاك كانت نصرانية محرَّفة كأي مكان في الدنيا، وظهر ذلك في موقف البطارقة من كلام جعفر بن أبي طالب[8] t عن المسيح u، ومع ذلك فهذا التحريف لم يمنع رسول اللهمن ذكر محاسنهم والثناء على فضائلهم.
***اخلاق الرسول فى مدح غير المسلمين***
بل إن رسول الله تجاوز ذلك بإعطاء النجاشي -وهو على نصرانيته- شَرَفَ أن يكون وليًّا لأم حبيبة بنت أبي سفيان -رضي الله عنها، وذلك لتزويجها له[9]، وكانت أم حبيبة -رضي الله عنها-من المهاجرات إلى الحبشة، وتَنَصَّرَ زوجها (عبيد الله بن جحش[10]) [11]، ثم فارقته فتزوجها رسول الله، وجعل النجاشي وليًّا لها، مع أنه كان من الممكن أن يجعل جعفر بن أبي طالب وَلِيَّها، وبخاصة أنه زعيم الوفد، وابن عم رسول الله، أو أن يجعل الولي من المهاجرين من بني
أمية، وما أكثرهم! ولكنهشاء أن يُعَظِّم شأن النجاشي وأن يُكرِمه.
موقف رسول الله مع كسرى فارس
إن من أعجب المواقف في هذا السياق ما حدث من الرسولمع رسل كسرى عندما جاءوه في المدينة المنورة، وكان الرسولقد أرسل رسالة إلى كسرى فارس يدعوه فيها إلى الإسلام، وغضب كسرى فارس من هذه الرسالة، وشَقَّها، وأرسل إلى عامله على اليمن ليأتي له برسول الله!!
ويحسن بنا لنَفْقَهَ طريقة رسول اللهفي تعامله مع غير المسلمين -في هذه الظروف الصعبة- أن نعرض للرواية من أوَّلها...
قال يزيد بن حبيب[1] -رحمه الله-: «بعث رسول اللهعبد الله بن حذافة[2] t إلى كسرى بن هرمز ملك فارس، وكتب معه: «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ إِلَى كِسْرَى عَظِيمِ فَارِس، سَلامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، وَآمَنَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ، وَشَهِدَ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ اللهِ؛ فَإِنِّي أَنَا رَسُولُ اللهِ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً، لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيُحِقَّ الْقَوْلَ عَلَى الْكَافِرِينَ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ، فَإِنْ أَبَيْتَ فَعَلَيْكَ إِثْمُ الْمَجُوسِ».
قال: فلما قرأه شقَّه، وقال: يكتب إليَّ هذا وهو عبدي؟!
قال: ثم كتب كسرى إلى باذان، وهو على اليمن، أن ابعثْ إلى هذا الرجل الذي بالحجاز رجلين من عندك جَلْدَيْن، فليأتياني به، فبعث باذان قهرمانه وهو (بابويه)، وكان كاتبًا حاسبًا بكتاب فارس، وبعث معه رجلاً من الفرس يقال له: خرخسرة، وكتب معهما إلى رسول اللهيأمره أن ينصرف معهما إلى كسرى، وقال لبابويه: ائْتِ بلد هذا الرجل، وكلِّمه، وَأْتِنِي بخبره. فخرجا حتى قدما الطائف، فوجدا رجالاً من قريش بنجب[3] من أرض الطائف فسألاهم عنه، فقالوا: هو بالمدينة. واستبشروا بهما، وفرحوا، وقال بعضهم لبعض: أبشروا، فقد نصب له كسرى ملك الملوك.. كُفِيتُمُ الرجل!!
فخرجا حتى قدما على رسول الله، فكلمه بابويه؛ فقال: إنَّ شاهنشاه ملك الملوك كسرى قد كتب إلى الملك باذان يأمره أن يبعث إليك من يأتيه بك، وقد بعثني إليك لتنطلق معي، فإن فعلت كتب فيك إلى ملك الملوك ينفعك، ويَكْفِهِ عنك، وإن أبيتَ فهو من قد علمت؛ فهو مُهْلِكُك، ومُهْلِكُ قومك، ومخرِّب بلادك. ودخلا على رسول الله، وقد حلقا لحاهما، وأعفيا شواربهما، فكرهالنظر إليهما، ثم أقبل عليهما فقال: «وَيْلَكُمَا، مَنْ أَمَرَكُمَا بِهَذَا»؟ قالا: أمرنا بهذا ربنا (يعنيان كسرى). فقال رسول الله: «لَكِنَّ رَبِّي قَدْ أَمَرَنِي بِإِعْفَاءِ لِحْيَتِي وَقَصِّ شَارِبِي». ثم قال لهما: «ارْجِعَا حَتَّى تَأْتِيَانِي غَدًا».
قال: وأتى رسولَ اللهالخبرُ من السماء أن الله قد سلط على كسرى ابنه شيرويه فقتله، في شهر كذا وكذا، في ليلة كذا وكذا. قال: فدعاهما فأخبرهما، فقالا: هل تدري ما تقول؟! إنا قد نقمنا عليك ما هو أيسر من هذا، أفنكتب عنك بهذا، ونخبر الملك؟ قال: «نَعَمْ، أَخْبِرَاهُ ذَلِكَ عَنِّي، وَقُولاَ لَهُ: إِنَّ دِينِي وَسُلْطَانِي سَيَبْلُغُ مَا بَلَغَ مُلْكُ كِسْرَى، وَيَنْتَهِي إِلَى مُنْتَهَى الْخُفِّ وَالْحَافِرِ، وَقُولاَ لَهُ: إِنَّكَ إِنْ أَسْلَمْتَ أَعْطَيتُكَ مَا تَحْتَ يَدَيْكَ، وَمَلَّكْتُكَ عَلَى قَوْمِكَ مِنَ الأَبْنَاءِ».
ثم أعطى خرخسرة مِنْطَقَة (حزام) فيها ذهب وفضة كان أهداها له بعض الملوك؛ فخرجا من عنده حتى قدما على باذان، فأخبراه الخبر، فقال: والله ما هذا بكلام ملكٍ، وإني لأرى الرجل نبيًّا كما يقول، وليكونَنَّ ما قد قال، فلَئِنْ كان هذا حقًّا فهو نبي مرسل، وإن لم يكن فسنرى فيه رأينا. فلم ينشب باذان أن قدم عليه كتاب شيرويه: «أما بعد، فإني قد قتلتُ كسرى، ولم أقتله إلا غضبًا لفارس؛ لما كان استحلَّ من قتل أشرافهم وتجميرهم في ثغورهم، فإذا جاءك كتابي هذا فَخُذْ لِيَ الطاعة ممن قبلك، وانظر الرجل الذي كان كسرى كتب فيه إليك، فلا تُهِجْهُ حتى يأتيك أمري فيه».
فلما انتهى كتاب شيرويه إلى باذان قال: إن هذا الرجل لرسول!! فأَسْلَمَ، وأسلمت الأبناء معه من فارس من كان منهم باليمن. وقد قال بابويه لباذان: ما كَلَّمْتُ رجلاً قَطُّ أَهْيَبَ عندي منه. فقال له باذان: هل معه شُرُط (شرطة)؟ قال: لا[4].
أخلاق الرسول مع الرسل والملوك
في هذه النقطة العظيمة نجد من أخلاق النبوة في تعامله مع المخالفين له ما نعجز عن وصفه أو بيانه!!
فهذان رسولا كسرى قد جاءا إلى رسول اللهذ في عقر داره في المدينة المنورة ليأخذاه إلى كسرى فارس، وكان كلامهما في منتهى الصلف والغرور، تمامًا كزعيمهما كسرى، ومع ذلك فلم يخرج رسول اللهعن هدوئه وأدبه ورقَّة طباعه، بل أخبرهما بمنتهى الموضوعية والثقة عن خبر السماء الذي أتاه، ثم أخبرهما أن يُبَلِّغَا باذان عامل اليمن من قِبَلِ كسرى أنه إن أسلم أعطاه رسول اللهما تحت يده، ثم زاد فوق ذلك الاحترام احترامًا أعظم وأكرم، فأعطى أحد الرسولين هدية قيِّمة عبارة عن مِنْطَقَة فيها ذهب وفضة!!
إن هذا الأسلوب الدبلوماسي الراقي في التعامل مع المخالفين في العقيدة والدين، والمخالفين في الموقف السياسي، بل والمخالفين في السمات الأخلاقية والطباع الإنسانية - لأَمْرٌ يدعو حقيقة للتوقف والتدبر والانتباه؛ فليس هناك قانون يُرْغِم قائدًا أن يتعامل بهذا اللطف مع رجل يهدده ويتوعده، ولكنها الرقابة الداخلية في نفس رسول اللهوالتي تضبط كل انفعالاته بضوابط الشرع وأوامر الله تعالى.. وليس هذا النُّبْل إلا في شريعة الإسلام، وشَتَّان بين من يراقب ربَّه في كل حركةٍ أو سَكْنَةٍ في حياته، ومن يعيش تابعًا لهواه طائعًا لشهواته! إنه الفرق بين المشرق والمغرب.
رسائل الرسول إلى الملوك والزعماء
ولم يكن هذا السلوك من رسول اللهتجاه الآخرين (غير المسلمين) سلوكًا عابرًا في حياته، وإنما كان أصلاً من الأصول التي يحتكم إليهافي كل تعاملاته مع غير المسلمين، ويظهر هذا جليًّا في رسائلهإلى ملوك الأرض وزعمائها، فهو لم يختص واحدًا دون الآخر باحترام أو توقير، وإنما عاملهم جميعًا بمنتهى الدبلوماسية، وبأعلى درجات الأخلاق بصرف النظر عن مللهم ونحلهم؛ فقد كان مِنْهُمُ النصارى، ومنهم المجوس، ومنهم عَبَدة الأوثان.. كما أنه لم ينظر إلى أعراقهم، بل عظَّم الجميع من عرب ومن عجم.
لقد أرسل رسول اللهعدة رسائل إلى ملوك الأرض حينذاك دعاهم فيها إلى الإسلام، وكان اللافت للنظر أنه في كل رسائله كان يصف الملك أو الزعيم بالعظمة، ولم يتحرَّجْ من وصف رجل غير مسلم منحرف العقيدة بهذا الوصف..
رسائل الرسول
يقول الرسولفي رسالته إلى قيصر الروم: «مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ…»[5].
ويقول أيضًا في رسالته إلى كسرى فارس: «مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ إِلَى كِسْرَى عَظِيمِ فَارِس…»[6].
ويقول في رسالته إلى المقوقس زعيم مصر: «مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ إلَى الْمُقَوْقس عَظِيمِ الْقِبْطِ…»[7].
وإلى النجاشي زعيم الحبشة: «هَذَا كِتَابٌ مِنْ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ إِلَى النَّجَاشِيِّ الأَصْحَمِ، عَظِيمِ الْحَبَشَةِ...»[8].
وهكذا كانت رسائله..
أخلاق الرسول مع الوفود
وكما أكرم رسول اللهرسولي كسرى مع كونهما جاءا برسالة غير مقبولة من فارس، فإنه كذلك كان يكرم كل الوفود التي تأتي إلى المدينة المنورة بصرف النظر عن الموقف السياسي والديني الذي يُتَوَقَّع من هذه الوفود، وكان للنبياهتمام بالوفود، استقبالاً وضيافةً وتجمُّلاً وجوائز.. فكانيُجري عليهم الضيافة، ويُحسن استقبالهم، ويسائلهم ويتردد عليهم، ويَلبس أحسن الثياب لاستقبالهم[9].
وكانقد خصص بعض الديار لاستقبالهم كما جاء عند استقباله لوفد سلامان[10]؛ حيث قال لثوبان غلامه: «أَنْزِلْ هَؤُلاَءِ الْوَفْدَ حَيْثُ يَنْزِلُ الْوَفْدُ»[11].
فواضح أن هناك دارًا مخصصة لهذا الأمر، وفي بعض الروايات أن هذه الدار كانت دار رملة بنت الحارث النجارية -رضي الله عنها-[12] كما حدث مع وفود كلاب ومحارب وعذرة وعبد قيس وتغلب وغسان وغيرهم[13].
وكان من عادتهأن يُحَمِّلَ هذه الوفود بالهدايا والجوائز، وكثيرًا ما تكون هذه الجوائز من الفضة[14].
ولقد بلغ من اهتمام رسول اللهبالوفود التي تأتي المدينة المنورة على اختلاف أديانها ومعتقداتها أن أوصى بهم وهو في اللحظات الأخيرة من حياته، فكان مما قالهفي آخر وصاياه: «أَجِيزُوا الْوَفْدَ بِنَحْوِ مَا كُنْتُ أُجِيزُهُمْ»[15]. و«أجيزوهم»: بمعنى أعطُوهُم، والجائزة هي العَطِيَّة[16].
حفاظ رسول الله على صحف التوراة
وجدير بنا أن نختم هذا المقال بأن نذكر أن احترام رسول اللهللمخالفين له بلغ إلى حَدِّ الحفاظ لهم على كُتُبِهِم الدينية، مع يقينهأن هذه الكتب مُحَرَّفَةٌ ومُغَايِرَةٌ للحقيقة، بل وفيها من التعديات على الأنبياء والمرسلين ما لا يُقبَل عقلاً ولا شرعًا، لكنهمع كل ذلك حافظ لهم على هذه الكتب والمخطوطات.. فقد غنممن حصون خيبر بعد فتحها عدة صُحُفٍ فيها التوراة، فجاءت اليهود تطلبها، فَتَكَلَّم فيها رسول اللهمع الصحابة، وتم بالفعل ردَّها إلى اليهود[17].
فهل هناك مثل هذا الرُّقِيِّ في التعامل!! وهل هناك من يتَّبع هذه القيم في علاقاته مع المخالف له!! وإن شئتم المقارنة فعودوا لما فعله الصليبيون عند سقوط الأندلس، وما فعله الرومان عند سقوط القدس في أيديهم...
العدل فى الاسلام
العدل في القرآن
إن العدل مبدأ أساسي من مبادئ الشريعة الإسلامية، ليس فيه استثناء ولا تهاون، وهذا أمر رباني لرسولناولأمته من بعده.. قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90].
ويقول تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58]. ويقول سبحانه: {وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} [الشورى: 15].
ولاحظ تكرار كلمة «الأمر» مع كلمة «العدل».. إن قضية العدل ليست قضية اختيارية أو من فضائل الأعمال، إنما هي أمر إلزامي لا تقوم الشريعة إلا به، ولا يستقيم لمؤمن أن يحكم بغيره.
العدل في السنة
وحياة الرسولكانت مثالاً واقعيًّا لقيمة العدل، وظهر ذلك في كل كلماته وأفعاله.. روى أبو هريرة t أن النبيقال: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ تَعَالَى فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلا ظِلُّهُ»، ذكر منهم: «إِمَامٌ عَدْلٌ»[3].
وتروي أم المؤمنين السيدة عائشة -رضي الله عنها- أن رسول اللهقال كذلك: «مَنْ ظَلَمَ قِيدَ شِبْرٍ مِنَ الأَرْضِ طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ»[4].
ويقولأيضًا فيما يرويه عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: «مَنْ أَعَانَ عَلَى خُصُومَةٍ بِظُلْمٍ أَوْ يُعِينُ عَلَى ظُلْمٍ، لَمْ يَزَلْ فِي سَخَطِ اللهِ حَتَّى يَنْزِعَ»[5].
عدل الرسول مع غير المسلمين
لقد جاءت كل هذه الأحاديث بألفاظ عامة تشمل المسلمين وغير المسلمين؛ فالظلم مرفوض بكل صوره، ومحرَّم مهما كانت الظروف، وليس الاختلاف في العقيدة، أو في العرق والنسب، أو في العلاقة والرابطة القبلية مبرِّرًا أبدًا لأي درجة من درجاته.
ومع هذا الوضوح في التعبير إلا أن رسول اللهأراد أن يقطع السبيل على كل مسلم في أن يعتقد أن الظلم مسموح به -ولو بدرجة يسيرة- مع غير المسلمين، فقال في كلمات رائعة ما يجب أن نحمله إلى كل إنسان على سطح الأرض؛ ليعلم من هو رسول الله: «أَلاَ مَنْ ظَلَمَ مُعَاهِدًا أَوِ انْتَقَصَهُ أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ أَو أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ، فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»[6].
ولم تكن هذه الكلمات الرائعة والمعاني النبيلة مجرد قواعد نظرية لا مكان لها في حياة الناس، بل كان لها الانعكاس الواضح على كل مواقف الرسولوتصرفاته؛ فكان يُبْرِزُ هذا المعنى بجلاء في كل معاهداته وارتباطاته، ويحرص على توفير العوامل المساعدة لإتمامه على أكمل وجه..
عدل الرسول مع اليهود
ففي معاهدات الرسولمع اليهود -مثلاً- عند هجرتهللمدينة أبرز هذا المعنى بصورة جليَّة في نصوص المعاهدة؛ فكان منها: «وَإِنَّهُ لَمْ يَأْثَمِ امْرُؤٌ بِحَلِيفِهِ، وَإِنَّ النَّصْرَ لِلْمَظْلُومِ»[7]. فكانت هذه القاعدة على سبيل التصريح بأن الظلم غير مقبول مطلقًا، وأن النصر للمظلوم سواء كان هذا المظلوم مسلمًا أو يهوديًّا، وهو ما أيَّده الواقع بعد ذلك.. وكانت بنود المعاهدة كلها مما ينطق بالعدل ويؤكده.
وعندما أراد رسول اللهأن يرسل رجلاً إلى خيبر لتنفيذ ما اتفق عليه المسلمون واليهود بعد فتح خيبر من قَسْمِ ثمار خيبر بين الطائفتين، أرسل عبد الله بن رواحة t، وكان العدل هو سمته البارزة، حتى إن بعض اليهود لما اعترضوا على طريقة التقسيم قال كلمته المشهورة: «يا معشر اليهود، أنتم أبغض الخلق إليَّ، قتلتم أنبياء الله، وكذبتم على الله، وليس يحملني بغضي إياكم أن أحيفَ عليكم»[8].
فالظلم غير مسموح به حتى وإن كان الحكم بين رسول اللهأحب الناس إلى قلب ابن رواحة t، واليهود أبغض الناس إليه.
عدل الرسول مع النصارى
ومثلما ركز الرسولعلى هذه المعاني في معاهدته مع اليهود، فَعَل الشيء نفسه عندما تعاهد مع النصارى، فقد قالفي معاهداته مع نصارى نجران: «وَلاَ يُؤْخَذُ رَجُلٌ مِنْهُمْ بِظُلْمِ آخَرَ»[9].
ولضمان استمرار العلاقة بين المسلمين والنصارى على أساس العدل، قرَّر رسول اللهأن يرسل مع نصارى نجران رجلاً يباشر تنفيذ ما اتفقوا عليه، على أن تكون أهم صفات هذا الرجل هي الأمانة.. وعلى الرغم من أن الأمانة صفة لازمة في كل الصحابة ن، إلا أن الرسولقد اختار من تبلغ فيه هذه الصفة حدَّ الكمال، حتى يصفه بقوله النبي: «لأَبْعَثَنَّ مَعَكُمْ رَجُلاً أَمِينًا حَقَّ أَمِينٍ»[10].
حتى إن الصحابة ن تمنَّوا جميعًا أن يكونوا ذلك الرجل، فقال: «قُمْ يَا أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ». فلما قام أبو عبيدة t، قال: «هَذَا أَمِينُ هَذِهِ الأُمَّةِ».
عدل الرسول مع أهل اليمن
ويبدو أمر الاهتمام بالعدل مع غير المسلمين بارزًا جدًّا في وصية رسول اللهلمعاذ بن جبل t وهو يُرسله إلى اليمن، وبها كثير من النصارى واليهود.. قال له:
«إِنَّكَ سَتَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ، فَإِذَا جِئْتَهُمْ فَادْعُهُمْ إِلَى أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ حِجَابٌ»[11].
فهذه وصية جامعة لمعاذ بن جبل t ولكل المسلمين، فلا يجب أن تلهيه القوة أو السلطان عن رؤية الحق وعن نصرة المظلومين؛ إذ إنَّ دعوة المظلوم -بصرف النظر عن ديانته أو عقيدته- ليس بينها وبين اللهحجاب.
هذه هي نظرة رسول الله الى
المظلوم بصفة عامة، وإن كنتَ مستغربًا لها فاسمعْ إلى كلامه في حديث آخر حين قال:
«اتَّقُوا دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ وَإِنْ كَانَ كَافِرًا؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ دُونَهَا حِجَابٌ»[12].
وفي رواية أخرى لأحمد –رحمه الله- قال: «دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ مُسْتَجَابَةٌ وَإِنْ كَانَ فَاجِرًا؛ فَفُجُورُهُ عَلَى نَفْسِهِ»[13].
فهذا تصريح بيِّن أن المظلوم ليس بينه وبين الله حجاب، ومن هنا فإن المسلم الصادق لا يظلم أبدًا لإحساسه الدائم برقابة اللهعليه، وأن المسألة مسألة عقائديَّة، وأن اللهينصر المظلوم يوم القيامة على الظالم، وإن كان المظلوم كافرًا والظالم مسلمًا، وأن رسول اللهيقف مع المظلوم ضد الظالم يوم القيامة بصرف النظر عن ديانة كل منهما.
هذا هو ديننا لمن لا يعرفه، وهذه هي أخلاقنا التي نعتز بها.
www.islamstory.com/ar/السيرة_النبويةمـــــــــوقع قـــــــــــصـــــــــة الاســـــــــــــــلام