أما بعد: فيا أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى حق التقوى، فإنها جماع الخيرات، وسبيل السعادة والنجاة، بها تزكو النفوس، وتستقيم الألسن، وتصلح القلوب، فاتقوا الله تعالى في كل ما تقولون وتفعلون: وَٱتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى ٱللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [البقرة: 281].
عباد الله:
إن دين الإسلام، وهو الدين الكامل في أحكامه، الشامل في تشريعاته، قد هدى إلى أرقى الأخلاق، وأرشد إلى أكمل الآداب، ونهى عن مساوئ الأفعال ومستقبح الأقوال، وإن مما وجه إليه الإسلام من الفضائل والآداب العناية بأدب الحديث، وحسن المنطق، وحفظ اللسان عن اللغو وفضول الكلام، فلقد أكرم الله تعالى بني آدم، وميزهم عن سائر الحيوان بنعمة العقل والبيان، وامتن سبحانه وتعالى بهذه النعمة على خلقه بقوله: أَوَلَمْ يَرَ ٱلإِنسَـٰنُ أَنَّا خَلَقْنَـٰهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مٌّبِينٌ [يس:77].
فحق هذه النعمة أن تُشكر ولا تكفَر، وأن يُراعى فيها ما يجب لله تعالى من حفظٍ عن الحرام، وصيانة عن الآثام، فإن اللسان من أعظم الجوارح أثرًا، وأشدها خطرًا، فإن استُعمل فيما يُرضي الحق، وينفع الخلق كان من أكبر أسباب السعادة والتوفيق لصاحبه في الدنيا والآخرة، وإن استعمل فيما يسخط الجبار، ويضر بالعباد ألحق بصحابه أكبر الأوزار، وأعظم الأضرار.
ولذا عُني الإسلام بأمر اللسان أيما عناية، فحث ربنا جل وعلا في محكم التنزيل وعلى لسان سيد المرسلين صلوات الله وسلامه عليه على حفظ اللسان وصيانة المنطق، ومجانبة الفحش والبذاء، فقال جل وعلا: وَقُل لّعِبَادِى يَقُولُواْ ٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ إِنَّ ٱلشَّيْطَـٰنَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ ٱلشَّيْطَـٰنَ كَانَ لِلإِنْسَـٰنِ عَدُوّا مُّبِينًا [الإسراء: 53]، ووصف الله عز وجل ذوي الإيمان وأرباب التقى بالإعراض عن اللغو، ومجانبة الباطل من القول، فقال عز شأنه: قَدْ أَفْلَحَ ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ هُمْ فِى صَلاَتِهِمْ خَـٰشِعُونَ وَٱلَّذِينَ هُمْ عَنِ ٱللَّغْوِ مُّعْرِضُونَ [المؤمنون: 1 ـ 3]، وقال سبحانه: وَإِذَا سَمِعُواْ ٱللَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ وَقَالُواْ لَنَا أَعْمَـٰلُنَا وَلَكُمْ أَعْمَـٰلُكُمْ سَلَـٰمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِى ٱلْجَـٰهِلِينَ [القصص: 55].
فحفظ اللسان عن المآثم والحرام عنوانٌ على استقامة الدين وكمال الإيمان، كما في الحديث عند الإمام أحمد وغيره أن رسول الله قال: ((لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه))[1]، بل إن جوارح الإنسان كلها مرتبطة باللسان في الاستقامة والاعوجاج، فقد روى الترمذي في سننه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي أنه قال: ((إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفِّر اللسان، تقول : اتق الله فينا؛ فإنما نحن بك، فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا))[2]، قال الإمام النووي رحمه الله: "معنى ((تكفر اللسان)) أي: تذل له وتخضع"[3].
وإن حفظ المرء للسانه، وقلة كلامه عنوان أدبه، وزكاء نفسه، ورجحان عقله، كما قيل في مأثور الحكم: "إذا تم العقل نقص الكلام"، وقال بعض الحكماء: "كلام المرء بيان فضله، وترجمان عقله، فاقصره على الجميل، واقتصر منه على القليل".
وإن المسلم الواعي ليحمله عقله ويدفعه إيمانه إلى الاعتناء بحسن اللفظ وجميل المنطق حين يرى المقام يدعو إلى الكلام، وإلا آثر الصمت ولزم الكف طلبًا للسلامة من الإثم، عملا بتوجيه رسول الهدى في قوله: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت)) أخرجاه في الصحيحين[4].
فحسن التعبير عما يجول في النفس أدب رفيع، وخلق كريم، وجه الله تعالى إليه أهل الديانات السابقة، وأخذ عليهم به العهد والميثاق، فقال عز وجل: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَـٰقَ بَنِى إِسْرءيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ ٱللَّهَ وَبِٱلْوٰلِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَالْيَتَـٰمَىٰ وَٱلْمَسَـٰكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا [البقرة:83].
وإن الطيِّب من القول ليجمل مع كل أحد من الناس، سواءٌ في ذلك الأصدقاء أو الأعداء، فهو مع الأصدقاء سببٌ لاستدامة الألفة والمودة، وأما حسن الكلام مع الأعداء فإنه مما يُذهب وحر[5] الصدور، ويسلّ السخائم والضغائن، ويطفئ الخصومات كما قال سبحانه: ٱدْفَعْ بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ فَإِذَا ٱلَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظّ عَظِيمٍ [فصلت: 34، 35].
أيها المسلمون:
إن للِّسان آفاتٍ عظيمةً، وإن للثرثرة وفضول الكلام مساوئ كثيرة، وقد قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في التحذير من ذلك: (من كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه قلَّ حياؤه، ومن قلَّ حياؤه قلَّ ورعه، ومن قلَّ ورعه مات قلبه) [6]، وقال بعض السلف: "أطول الناس شقاءً وأعظمهم بلاءً من ابتُلي بلسان منطلق وفؤاد منطبق".
فمن الحزم والرشاد اجتناب فضول الكلام، وحفظ اللسان عن كل ما لا ينفع ولا يفيد في أمر دينٍ أو دنيا؛ إذ بهذا وصى رسول الهدى أمته، وحثها عليه، فقد روى الترمذي وغيره أن رسول الله قال لمعاذ بن جبل : ((كف عليك هذا)) وأشار إلى لسانه، فقال معاذ: يا رسول الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟! فقال : ((ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكُبّ الناس في النار على وجوههم إلا حصائدُ ألسنتهم؟!))[7] ، وروى الترمذي وغيره عن سفيان الثقفي قال: قلت: يا رسول الله، ما أخوف ما تخاف عليَّ؟ قال: فأخذ رسول الله بلسان نفسه، ثم قال: ((هذا)) [8].
ولأجل ذا كان سلف هذه الأمة وخيارُها يخشون خطر اللسان، ويحاذرونه غاية الحذر، فكان أبو بكر يخرج لسانه ويقول: (هذا الذي أوردني شر الموارد)[9] ، وقال عبد الله بن مسعود : (والله الذي لا إله غيره، ما على ظهر الأرض شيء أحوج إلى طول سجن من لسان)[10]، وقال عطاء بن أبي رباح رحمه الله: "أما يستحي أحدكم إذا نشرت صحيفته التي أملاها صدْرَ نهاره أن يكون أكثر ما فيها ليس من أمر دينه ولا دنياه"[11].
فاللسان ـ يا عباد الله ـ حبل مرخي في يد الشيطان، يصرف صاحبه كيف يشاء إن لم يُلجمه بلجام التقوى، أما حين يطلق للسانه العنان، لينطق بكل ما يخطر له ببال، فإنه يورده موارد العطب والهلاك، ويوقعه في كبائر الإثم وعظيم الموبقات، من غيبة ونميمة، وكذب وافتراء، وفحش وبذاء، وتطاول على عباد الله، بل وربما أفضى بالبعض إلى أن يجرِّد لسانَه مِقراضًا للأعراض بكلمات تنضح بالسوء والفحشاء، وألفاظ تنهش نهشًا، فيسرف في التجني على عباد الله بالسخرية والاستهزاء، والتنقص والازدراء، وتعداد المعايب، والكشف عن المثالب، وتلفيق التهم والأكاذيب، وإشاعة الأباطيل، لا يحجزه عن ذلك دينٌ ولا يزعه عنه مروءة ولا حياء، كأنه لم يسمع قوله عز شأنه: سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ [آل عمران: 181]، وقوله عز وجل: مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق: 18]، وأين هو من قوله عليه الصلاة والسلام: ((ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان، ولا الفاحش ولا البذيء)) رواه الترمذي وحسنه[12]، وروى البخاري في صحيحه أن رسول الله قال: ((إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم)) [13].
وإن البلاء ليعظم حين يُرى من عليه سِيما العلم والصلاح وهيئات الوقار والاحتشام ويُسْفر عن فُحش وبذاء، حتى لا يدع لصاحب فضل فضلاً، ولا لذي قدر قدرًا، يحمل عليهم الحملات الشعواء أحياءً وأمواتًا لزلة لسان، أو سَبق قلم، أو لموقف خاص معهم، وقد لا يكون شيء من ذلك، وإنما هو الحسد والبغي، أفلا حَجَزه عن ذلك عقلٌ وخلق، إن لم يمنعه دين وتقى؟! أولا يمنعه من ذلك ما يعلمه من عيوب نفسه وكثرة مثالبه؟! وقد قال بعض السلف لمن سمعه يقع في أعراض الناس: "قد استدللنا على كثرة عيوبك بما تُكثر من عيوب الناس".
فاتقوا الله عباد الله، ولتحفظوا ألسنتكم، وسائر جوارحكم عما حرم الله تعالى عليكم، ولتتذكروا على الدوام قول الحق جل وعلا: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَـٰلَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب: 70، 71].
نفعني الله وإياكم بالقرآن الكريم، وبهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.